أورد البخارىحديث أبى حازم عن سهل ابن سعد الحديث الذى تقدم الآن، وفيه" أنه عليه السلام قال للرجل: فما معك من القرآن؟ قال: معى سورة كذا وسورة كذا لسور عدها، قال:اتقرأهن عن ظهر قلب؟ قال: نعم، اذهب قد ملكتها بما معك من القرآن" وهذه الترجمة من البخارى رحمه الله مشعرة بأن قراءة القرآن عن ظهر قلب أفضل ، والله أعلم. ولكن الذى صرح به كثيرون من العلماء أن قراءة القرآن من المصحف أفضل لأنه يشتمل على التلاوة والنظر فى المصحف، وهو عبادة كما صرح به غير واحد من السلف، وكرهوا أن يمضى على الرجل يوم لاينظرفى مصحفه.واستدلوا على أفضلية التلاوة فى المصحف بما رواه الإمام العلم أبو عبيد رحمه الله فى كتابه فضائل القرآن: حدثنا نعيم بن حماد عن بقية ابن الوليد عن معاوية بن يحيى عن سليم بن مسلم عن عبدالله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم:"فضل قراءة القرآن نظرًا على من يقرؤه ظهرًا كفضل الفريضة على النافلة "، وهذا الإسناد فيه ضعف فإن معاوية ابن يحيى هذا هوالصدفى أو الأطرابلسى وأيا ما كان فهو ضعيف. وقال الثورى عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أديموا النظر في المصحف. وقال حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس عن عمرأنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ فيه. وقال حماد أيضًا عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبى ليلى عن ابن مسعود أنه كان إذا اجتمع اليه إخوانه نشروا المصحف فقرأ أو فسر لهم. إسناد صحيح.وقال حماد بن سلمة عن حجاج بن أرطاة، عن ثوير بن أبى فاختهعن ابن عمر، قال: إذا رجع أحدكم من سوقه فلينشر المصحف وليقرأ.وقال الأعمش عن خيثمة: دخلت على ابن عمرو وهو يقرأ فى المصحف فقال: هذا جزئى الذى أقرأ به الليلة.
فهذه الاثار تدل على أن هذا أمر مطلوب لئلا يعطل المصحف فلا يقرأ منه ولعله قد يقع لبعض الحفظة نسيان فيستذكر منه، أو تحريف كلمة أو آية أو تقديم أو تأخير فالاستثبات أولى والرجوع إلى المصحف أثبت من أفواه الرجال.فأما تلقين القرآن فمن فم الملقن أحسن، لأن الكتابة لا تدل على الأداء كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخًا يوقفه على ألفاظ القرآن. فأما عند العجز عما يلقن فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فاذا قرأ فى المصحف والحالة هذه فلا حرج عليه، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه، فقد قال الإمام أبوعبيد: حدثنى هشام بن إسماعيل الدمشقى عن محمد بن شعيب عن الأوزاعى أن رجلا صحبهم فى سفر، قال: فحدثنا حديثا. ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ، كتبه الملك كما أنزل " وحدثناحفص بن أبى غياث عن الشيبانى عن بكير بن الأخنس قال كان يقال إذا قرأ الأعجمى والذى لايقيم القرآن كتبه الملك كما أنزل وقال بعض العلماء: المدار فى هذه المسئلة على الخشوع، فإن كان الخشوع أكثر عند القرا ة عن ظهر قلب فهو أفضل، وإن كان عند النطر فى المصحف أكثر فهو أفضل. فإن استويا فالقراءة نظرًا أولى لأنها أثبت وتمتاز بالنظر إلى المصحف.قال الشيخ أبو زكريا النواوى رحمه الله فى التبيان: والظاهر أن كلام السلف وفعلهم محمول على هذا التفضيل.
تنبيه إن كان البخارى رحمه الله أراد بذكره حديث سهل الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهرقلب أفضل منها فى المصحف ففيه نظر، لأنها قضية عين، فيحتمل أن ذلك الرجل كان لا يحسن الكتابة ويعلم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فلا يدل على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل مطلقًا فى حق من يحسن، إذ لو دل على هذا لكان ذكر حال رسول الله وتلاوته عن ظهر قلب- لأنه أمي لايدرك الكتابة- أولى من ذكر هذا الحديث بمفرده .
الثاني:إن سياق الحديث إنما هو لأجل استثبات أنه يحفظ تلك السورعن ظهر قلب ليمكنه تعليمها لزوجته، وليس المراد هاهنا أن هذا أفضل من التلاوة نظرًا ولا عدمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
من كتاب فضائل القران للإمام الحافظ إسماعيل ابن كثير البصري الدمشقي