هكذا أسقط المسلمون إمبراطورية الروم

واضع والجهوزية سلاحنا في مواجهة العدوان

إن الشهر الذي نعيشه من السنة القمرية، هو شهر صفر الذي يعتبر واحدا من الاثني عشر شهرا التي أشار إليها القرآن ''إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله''.
وهذا الشهر عظيم الشأن في تاريخ السيرة النبوية لما برزت فيه من الأحداث الكبار، والأعمال المجيدة، والبطولات الخالدة.
ففي هذا الشهر، وبعد أن رجع ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حجة الوداع أمر بتجهيز جيش كبير بقيادة أسامة بن زيد لغزو الإمبراطورية الرومانية التي كانت تترصد للمسلمين وتريد القضاء على الدعوة الإسلامية.
وهذا القرار النبوي إن دل على شيء فإنما يدل على حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تأمين طريق الدعوة إلى الإسلام وعلى ضرورة النشاط والعمل والحركة المتواصلة؛ فبمجرد عودته وعلمه بمخططات الروم لضرب المسلمين اتخذ قراره. ولقد كان أسامة الذي أمّره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الجيش حيث دعاه وقال له: ''... ولّيتك هذا الجيش..'' كان آنذاك ابن ثمانية عشر سنة أو عشرين، وفي الجيش عدد كبير من كبار الصحابة وخيارهم كأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم...
ولكن المنافقين والمرجفين، الذين لا تكاد تخلو منهم بلدة ولا جماعة، استنكروا فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالوا كيف يؤمّر غلاما على كبار المسلمين، فخرج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخطب فيهم وكان مما قاله ''وأيم الله إن هذا لها لخليق يريد أسامة.. فأوصيكم به فإنه من صالحيكم''.
لا مفاضلة إلا بالتقوى
فانظروا إلى تواضع كبار الصحابة، وبعدهم عن تقديس الزعامة والإمارة واتباعهم لأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم صغر أسامة ورغم أنه كان من العبيد في القديم، لتعلموا أسباب انتصار وسيادة سلفنا الصالح وأسباب انهزام وضعف المسلمين ''إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم''.
ودرس آخر نأخذه من هذه الواقعة وهو أنه لا مفاضلة ولا خيرية ولا تزكية في الإسلام إلا بالتقوى والعمل الصالح والكفاءة، فقد حطّم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقاييس الجاهلية التي كانوا يتفاوتون بها عندما أمر أسامة الذي قال فيه ''فإنه من صالحيكم'' وبهذا الدرس جاء التوجيه القرآني ''إن أكرمكم عند الله أتقاكم'' ''فلا تزكّوا أنفسكم..''.
وهكذا أمر أسامة الجيش بالتحرك، وبينما هم يستعدون للخروج جاء الخبر بموت النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي أوصى في مرضه بإنفاذ جيش أسامة، رضي الله عنه، فعاد المسلمون لتجهيز النبي، صلى الله عليه وسلم، واختيار الخليفة من بعده.فهل نفذ الصحابة وصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، أم استغلوا فرصة غياب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لعزل وإزالة أسامة كما يفعل الكثير منا حيث يفسد عندما يغيب المدير عن المؤسسة أو المعلم عن القسم أو الإمام عن المسجد أو الأب عن البيت أو أي مسؤول عن مكان مسؤوليته لأمر ما؟
لقد كان الصحابة شديدي الاتباع لأوامر الرسول، صلى الله عليه وسلم، فبعد أن اختار المسلمون أبا بكر خليفة سيّر جيش أسامة تنفيذا لوصية الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقال: ''والذي نفسي أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. والذي نفسي بيده لأن يميل عليّ العرب أحب إليّ من أحبس جيشا يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم''.
من موجبات النصر... التشاور
وسار الجيش بالفعل وهزم الروم في عقر دارهم، رغم أن بعض الصحابة أشار على أبي بكر بعدم الخروج خوفا من أحياء العرب حول المدينة التي ارتدت وأعلنت عداءها للإسلام، وخوفا من خطر مانعي الزكاة ولانشغال المسلمين بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن قرار أبي بكر كان الأفضل والأحكم لأنه لم يخطر ببال أحد أن يبادر بهذا الهجوم في مثل تلك الظروف، حيث نزع المسلمون هيبة الروم من القلوب، وأخافوا المرتدين بما رأوا من قوة المسلمين، وثبت الناس على الإسلام.
وهذا ما يجب أن يكون عليه المسؤولون من الحكمة، وبُعد النظر في تقدير مصالح العباد والبلاد وفقه المواجهة.
ولا يفوتني أن أسجل في هذه الواقعة ذلك الموقف عند خروج الجيش حيث قام أبو بكر بتشييع الجيش وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمان بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال له أسامة ''يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن'' فقال أبو بكر ''والله لا تنزل والله لا أركب وما علي أن أغبّر قدمي في سبيل الله''.
فأين نحن من هذا الذوق الرفيع والخلُق الحسن وقد افتخر بعضنا على البعض وتكبّر بعضنا على بعض، والرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول ''إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر ولا يبغي أحد على أحد'' رواه مسلم.
''واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين'' الآية.
لقد أدرك الصحابة طريق الرفعة الذي ذكره صلى الله عليه وسلم في قوله ''ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله'' رواه مسلم. كما أدركوا بأن من موجبات النصر التواضع والتشاور والتعاون والاستئذان واقتسام الأعمال في المهمات وإنزال الناس منازلهم، كل ذلك في الإطار الجماعي. فما قاله أبو بكر لأسامة وهو يودعه ''إن رأيت أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام فافعل، فأذن له بالبقاء'' وانتصر الجيش الإسلامي بقيادة أسامة، الشاب رضي الله عنه.
ويبقى التساؤل اليوم قائما حول الحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية من جراء الاعتداءات المتكررة والمتجددة هنا وهناك خاصة في أرض النبوات، أرض الإسراء والمعراج، التي ضمت المسجد الأقصى المقدس، المبارك ما حوله من أرض فلسطين، حيث يواجه أهله المرابطون، خاصة في غزة، طغيان الإسرائيليين الصهاينة وخذلان النظام الدولي، وضعف وخنوع العرب والمسلمين على المستوى الرسمي. ولن تقوم لنا قائمة ما لم نأخذ بمنهج القرآن وسيرة النبي الكريم في مواجهة العدوان المسلط علينا، وذلك على المستويات الداخلية، بإشاعة وسلوك التفاهم والتشاور والتواضع، وعلى المستوى الخارجي بإعداد العدة المادية والمعنوية والتنبه لمخططات العدوان، والاستعداد المتواصل لأي مكر وكيد. كما هو الأمر في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي نتباكى على الإساءة إليه والاستهزاء برسالته من طرف معتدين أدركوا أننا ضعفاء لا نقدر على الردع ولا الرد.

merci

merci

صفحة 1 من اصل 1